قدمت إلى مصر بعد وفاة شقيقتي الدكتورة مريم الإمام ، فمًا وجدت مصر هي مصر التي أعرفها ، ولا القاهرة هي المدينة التي آلفها ، ولا شقة المهندسين هي الشقة التي كنت أستظل بسقفها وآنس بحديث صاحبتها ،لقد تبدلت المعالم ، واقفرت الدار عن أهلها، ولم تعد الأشياء هي الأشياء ، فما مثلي الا كمثل الشاعر الجاهلي الذي عاد الي مكة بعد طول غياب ، فما وجدها كعهده بها ، فقد عميت عليه شعابها وكان أدرى بها، فانشد قائلا :
كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
لقد خبا الضوء الذي كنا نستضيء به ، وذهب النور الذي كنا نهتدي به ، وانهد الركن الذي كنا نأوي إليه ،فمن لنا من بعدها إذا ادلهمت الخطوب،
فلله ما أعطى ولله ما أخذ ولا نقول إلا ما يرضي الرب
٠٠٠٠٠
قالت لي أختي سمية تخبرني بوفاة مريم – رحمها الله -عبر الهاتف: مريم راحت يا هاشم! آه ما أوجع هذا الخبر ، وما أقسى هذه العبارة وماأشد وقع هذه الكلمات على قلبي فلا زالت تقرع مسامعي فتفزعني وتسلمني الى حزن عميق ، لقد سبقتني العفة البتول الى ربها وما كنت أحسب أنها ستسبقني ولكن قدز الله وما شاء فعل ولكل أجل كتاب.
٠٠٠٠٠
كانت مريم ، ولانزكي على الله أحدا ، برة رحيمة، طاهرة زكية ، ورعة تقية، ظاهرها كباطنها ، لاتعرف الحقد، ولا يتغشى قلبها الغل، قد عافاها الله من أمراض القلوب فهي لا تغتاب أحدا ، ولاتمشي بين الناس بالنميمة ، ولا تحسد أحدا على ما رزقه الله من النعم ، فلله درها من أمة آمنت بربها ثم استقامت وسمعت القول فاتبعت أحسنه٠
٠٠٠٠٠
وصفتها لي الأستاذة راوية العباسي يوما بأنها ( قديسة )أي طاهرة متبتلة كما ينبغي أن تكون القديسة ،وكذلك كانت القديسات في زمان مضى٠
ووصفتها صديقتها الصحفية العظيمة الأستاذة بخيتة أمين صاحبة العمود الصحفي الشهير( جرة قلم ) بأنها( أعظم نساء السودان ) بعد أن عددت مزاياها وأسهبت في ذكر محاسنها وقد صدقت وما أبعدت النجعة ، وما قالت إلا الحق وما شهدت إلا بما رأت ٠
ورثاها زميلها في وزارة التجارة، الأستاذ محمد علي فأحسن القول، وقد كان قريبا منها يعرف قدراتها ويغبطها على إخلاصها في عملها ولا ينبئك مثل خبير٠
٠٠٠٠٠
بدأت الدكتورة مريم حياتها العملية مدرسة بعد أن تخرجت في كلية المعلمات ،نظام الأربع سنوات ، ولكن طموحها وحبها للعلم قادها إلى امتحان الشهادة السودانية في العام الذى أعقب تخرجها في كلية المعلمات ، فدخلت كلية التجارة/ جامعة القاهرة وتخرجت فيها من قسم المحاسبة بتفوق ثم التحقت بوزارة التجارة وأبدت قدرات وإخلاصا في العمل مما أهلها ان تبعثها الوزارة إلى مصر لنيل دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد ونالت الدبلوم بامتياز فمنحتها الحكومة المصرية فرصة لدراسة الماجستير والدكتورا
عادت مريم إلى السودان تحمل الدكتوراة واستمرت في عملهما بوزارة التجارة وتدرجت في سلمها الوظيفي حتى صارت وكيلة وزارة التجارة ولا أعلم امرأة تضاهيها في قدراتها وسلوكها سوى صديقتها المرأة الصالحة خديجة أبو القاسم حاج حمد وكيلة وزارة الشؤون الاجتماعية وقد كانت صاحبة مبادرات ولكن المفسدين كادوا لها حتى أخرجوها من وظيفتها والناس أعداء النجاح ٠٠٠٠٠
كانت مريم حين صارت وكيلة لوزارة التجارة شوكة في خاصرة المفسدين حربا على المستبيحين للمال العام كما كانت في الوقت نفسه تمد يد العون للعمال وصغار الموظفين تبحث لهم فئ الميزانية عن بنود تستطيع أن تساعدهم بها دون الإخلال بالقوانين المالية التي تحكم ميزانية الدولة٠
كانت مريم رحمها الله كأمها الحاجة سكينة تحب المساكين وتعطف عليهم وتشعر أنها تنتمي إليهم وإن لم تكن منهم من حيث التصنيف الاقتصادي٠
اللهم احشرها في زمرة المساكين ممن يخافك ويتقيك ٠
ومن الوظائف التي شغلتها مريم وظيفة المستشارالاقتصادي في سفارة السودان وقد وجدت تعنتا من الوزارة في ترشيحها لهذه الوظيفة إذ اعتيد أن يشغل هذه الوظيفة الرجال دون النساء بلا أسباب منطقية لكن سيرتها في العمل ساعدتها على اقناعهم باسناد هذه الوظيفة إليها فاصبحت حقا للنساء من بعدها كما هي حق للرجال، ولازالت بصماتها في السفارة تشهد بأنها امرأة قدت من طينة حسن الخلق ، فقد كانت تنأى بنفسها عما يدنس نفسها ، وتصينها عما٠يجرح كبرياءها وعزة نفسها ٠
ومن الوظائف الرفيعة التي شغلتها مريم وظيفة الأمين العام المساعد لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية فكانت وجها مشرقا للمرأة العربية عامة والمرأة السودانية خاصة علماً وخبرة وسلوكاً ولكن أبى المفسدون إلا أن يتبعوا سنن من قبلهم فكادوا لها أيما كيد وكان بعضهم لبعضهم ظهيرا حتى ضاقت بها الأرض بما رحبت ثم أدركها من جراء ذلك المرض الذي أودى بحياتها ولكن الله يمهل ولايهمل ولا بد أن يحق الله الحق ولو بعد حين ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وعند الله تجتمع الخصوم٠
جزع المخلصون من موظفي وموظفات مجلس الوحدة الاقتصادية لموت مريم وبكوا عليها حتى تقرحت أجفانهم ودميت قلوبهم لفراقها فلا حزن ولا ضجر، وغداً نلتقي في مستقر رحمة ربي٠
٠٠٠٠٠
أحبت مريم عملها وتفانت فيه وقليل من موظفي الخدمة المدنية في السودان من يفعل ذلك ، فهي تخرج في الصباح الباكر ولا تعود إلابعد مغيب الشمس ، وربما عادت إلى البيت تحمل معها الملفات التي لم تنجزها في المكتب ٠
وكما أحبت عملها في الخدمة المدنية أحبت أيضا العمل العام فهي عضو في عدد كبير من منظمات النساء والمنظمات الطوعية الخيرية، هي تشارك في كل مؤتمرات هذه المنظمات بالأوراق العلمية وبالنقاش وإبداء الرأي القائم على الموضوعية والسداد فهي إن كتبت أبدعت وإن ناقشت أبانت وأفحمت خصمها ٠
توصف علاقة مريم مع صديقاتها بالتميز والتفرد والوفاء الذي أصبح رابع المستحيلات في زماننا هذا ، فشقتها لم تخل يوما من صديقة أو قريبة أو طالبة مساعدة فلم تعد مصر اليوم سائغة لهن بعد هذه الغيبة السرمدية ٠
ومن أنبل ما يعرف عن وفائها لصديقاتها أنها لا تقبل فيهن القالة ولو كانت من أقرب أقربائها وكذلك تكون العلاقة السوية:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من ثميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا اتقيك وتتقيني
وبهذا ملكت مريم محاب القلوب ، فهي من أحاسن الناس أخلاقاً الموطئين أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون فإن أردت أن تعرف صدق قولي فاسأل عنها ( أم ياسر) هذه المرأة المصرية المسكينة التي تعمل معها في البيت فهي لا تسألها لِمَ فعلت هذا ولِمَ لمْ تفعلي هذا ؟ فهي ترضى منها بما تستطيعه وتجود عليها من كريم مالها بما يدهشها وتأسرها برقة خلقها وصفاء سريرتها ومتانة دينها لذلك فهي لا تحب أن تعمل عند غيرها ولو توفر لها الزمن وكان ذلك متاحا٠
٠٠٠٠٠
تحب مريم أهلها الأقربين منهم والأبعدين لا تفرق بينهم وهي ترى أن الأهل عز لها وسند وقد وجدنا رأيها صوابا إذ التفوا حولنا في عزائها وخففوا من وقع مصيبة موتها علينا فالله أسأل أن يجزيهم عنا خير الجزاء٠
ما كانت مريم تجد على أحد ولا أحد يجد عليها وما فاتها إنما هو لعاعة الدنيا وما عند الله خير وأبقى٠
كانت تبر أهلها وتصل رحمها وتنفق في سبيل الله سرا وعلانية وكان أشد ما يزعجها ويعكر صفوها أن يحدث خلاف بين إخوانها فهي لا تنام ولا يهدأ لها بال حتى تحتوي هذا الخلاف وتصلح ذات بيننا٠
لا أعلم أحدا ممن أعرف أبر بوالديه منها لا ترد لهم طلبا ولا ترى من حقها أن تجادلهم فيما يطلبون ولو كان ما يطلبونه يعوزه المنطق أو تقصر عنه اليد فقد أودعت فيها الحاجة سكينة ما فيها من خصال الخير فتمثلتها ولم تنقص منها شيئا ولقد صدق ظنها فيها إذ تولت أمر والدها بعد وفاة أمها فبرته أيما بر ولم تحوجه إلى أحد غيرها والناس يتحدثون عن هذه الرعاية يغبطونه عليها٠
٠٠٠٠٠
رحم الله الدكتورة مريم فقد تعجز الألفاظ عن وصفها وقد لا يجود الخاطربما تستحقه من الثناء عسى أن أعود إلى هذه السيرة العطرة فأوفيها حقها
فأفضالها لا تحصى٠
هذا وإني لأنتهز هذه السانحة لأشكر كل من عزانا أو بلغنا عزاؤه أوعذره أو منعه مانع أو حبسه حابس ، فكلهم مأجورون عند الله إن شاء الله ٠
اللهم اغفر لمريم وارحمها واجعلها من ورثة جنة النعيم، إنك ولي ذلك والقادر عليه٠