ذكريات لا تموت
جملة قرأتها عن أحد الرحالة الفرنسيين فى القرن الثامن عشر ـ لا أعرف اسمه ـ قال فيها لو كان الخلود لبشر لكان لذلك الفلاح المصرى.
قالها بعد رحلة مطولة إلى مصر جال فيها بين صعيد مصر وريفها وفى حقول الريف ودوره وأكواخه الطينية البسيطة، قالها وهو يتابع يوميات الفلاح المصرى منذ ماقبل شروق الشمس وهو يصطحب بقرته وجاموسته وحماره إلى الحقل بعد أن يصلى الفجر ثم يتناول لقيماته المقددة وبعض اللبن أو بعض الجبن القديم والمش المعتق، ويبدأ يومه مع أشعة الشمس وهى تجفف الندى عن أوراق النباتات وتنشر الضياء وتبث الدفء وتنزع عن الجسم كسله وخموله، يحرث أو يسقى أو يزرع أو يحصد لاتعوقه حرارة شمس الصيف أو برودة أمطار الشتاء.. يعمل بنشاط ولا يجلس للراحة إلا مع الظهر وقد نال التعب منه مبلغا والجوع يناوشه والبطن يطلب المدد من الفم ببعض لقيمات أخرى مغموسة بما تيسر من الغموس شديد البساطة يبلعه مع رشفات من ماء القلة أو من ترعة أو جدول صغير يشاطئ أرضه،هى لقيمات وغموس بسيط للتصبر أو لإعادة شحن طاقة العمل والعرق، لافرق بين عرق فى الحر أو حتى فى البرد ففى كلٍّ عزيمة وإصرار على عشق الأرض ومبادلتها عطاء بعطاء.. وهل أجمل من بعض من قيلولة تحت توتة أو جميزة أو صفصافة أو جازورينة أو كافورة حسبما أتيح، ولا بأس من بعض الشاى على راكية من النار تنضج ثمرة من بطاطس أو بطاطا مشوية تمثل ترفيها له ليعاود حواره مع الأرض يسقيها عرقا فترضيه ثمرا، يرويها جهدا فتكفيه مؤنة مهما قلت.. يتركع العصر ليواصل يومه حتى وداع الشمس شفقا وأصيلا فمغيبا وخيوط المساء ترسم ظلالا فى الصورة ليتوضأ فيصلى المغرب على رأس حقله فوق أعواد من القش بعدما يلبس نصف ملابسه التى نضاها عنه صباحا، ليفك أحبال حيواناته من أوتادها ليعتلى ظهر حماره الصبور الوفى يردف خلفه ابنه أو ابن شقيقه عائدا صوب داره وقد قضى مابين شروق الشمس وغروبها وتحول ضياء النهار الى ظلمة تتدرج شيئا فشيئا من غبش المغرب الى ظلام يستقبله وحيواناته وهو يدخل الدار على ضوء خافت للمبة فتيلة، تكاد بالكاد تنير له خطواته الى داخل داره ليريط حيواناته الى مرابطها ومذاودها فتكمل يومها تجتر مافى بطونها راقدة أو واقفة، ويذهب ليصلى العشاء ثم يمضى للقيمات ثالثة وماتيسر من غموس أو حتى أكلة مميزة ليلة السوق الأسبوعى للقرية.
هكذا عايش الرحالة الفرنسى يوميات الفلاح المصرى وقتها والتى امتدت بتفاصيلها حتى سنوات غير بعيدة دخلت قبلها الكهرباء فأنارت الدور والدروب والشوارع وهيمنت الميكنة على أعمال الحقل فقل العرق وزاد المنتج لكن تشوشت العلاقة بين الفلاح العصرى وأرضه، وهكذا كانت جملته أنه لو كان الخلود لبشر لكان لذلك الفلاح المصرى.. وهكذا عاصرت العم صلاح وهو يخطو قرابة عشرة عقود إلا قليلا من الزمن والعم السيد وهو يلاحقه بسنوات قليلة ملتصقين بالتربة الطيبة ـ لم تنقطع صلتهما بالأرض ولا بذلك البرنامج اليومى الذى سجله الرحالة الفرنسى منذ قرابة ثلاثة قرون ولم يكد كل منهما يخرج من ذلك البرنامج حتى سنوات شديدة القرب من وقتنا الحالى، لم تتنازل عقيدتهما الريفية عن ماض عاشاه عملا وعرقا وكفاحا والتصاقا بالأرض فى صورتها الفطرية السابقة.. متعهما الله بالصحة والعافية ماداما على قيد الحياة.