بقلوب مثقلة بالحزن وأرواح يكتنفها ألم الفقد، نودع المناضل الجسور، عمنا عبدالحميد بشير مانيس، الذي لم ترضَ نفسه الأبية إلا أن تقف في وجه الظلم، حيثما كان، وفي أي هيئة تجلى. لقد خاض مسيرة نضال لا تعرف التراجع ولا التخاذل، مسيرة تنبض بالعزم والشجاعة، حاملاً راية الحرية في وجه الطغيان بكل شموخ وإباء. كان فقيدنا من أوائل الأبطال، الذين آمنوا أن الحلم بالحرية لا يكفي، بل يجب أن يُصاغ بعرق الكفاح ودماء التضحية. أسهم في تأسيس حركات التحرر، متقدماً الصفوف بحكمة وإصرار، مؤمناً أن الحق يُنتزع ولا يُمنح، وأن النضال هو السبيل الوحيد لرفض الظلم وإقامة العدالة.
عشنا معه أياماً كانت تضج بالعزيمة التي لا تنحني، عزيمة تزداد قوة كلما اشتدت عليها الخطوب وتعاظمت المحن. ائتلفنا واختلفنا، تبادلنا الرؤى والأفكار، ولكننا كنا ندرك بعمق أن اختلافنا لم يكن إلا وقوداً يشعل جذوة الحوار ويغذي شراكة النضال. كان يؤمن بأن التباين في الرأي لا يفسد للود قضية، بل يزيد القلوب اتساعاً، والعقول أفقاً، فكان كالأب الحاني الذي يحتضن حماس الشباب بترحاب الحكمة وسعة الصدر، يوجّه دون قيد، ويقود دون فرض. لقد عاش مناضلاً، سلاحه الأمل وصلابته الإيمان، ومات شهيداً، حاملاً في رحيله عبق رسالته الخالدة. تلك الأيام التي قضيناها معه كانت شهادة على روحٍ استثنائية نذرت نفسها للكفاح، لم تعرف الخوف طريقاً ولا التردد موطناً. كان كالشعلة الوهاجة في عمق الظلام، تزيدها الرياح اضطراماً، فتواجه العواصف بجرأة وتستمد قوتها من صعوبة التحديات ذاتها، وكأنها تجد في المحن غذاءً يمدها بالمزيد من البريق والإصرار.
لقد جسد في حياته نموذجاً نادراً للمناضل الذي لا تهزمه الصعاب، بل يجعل منها سلماً يرتقي به نحو غاياته النبيلة. كان نوراً يبدد عتمة الظلم، وصوتاً يعلو باسم الحق، وكأن حياته بأسرها كانت رسالة تقول: إن النضال ليس مجرد فعل، بل هو حياة بأكملها، حياة تُمنح لمعنى أكبر وأعمق من الذات، وتُخلّد في وجدان كل من يؤمن بالحرية والكرامة. كانت أيامه درساً عميقاً في معنى الصمود، درساً يُلقي على من حوله عبق الحكمة وثقل المسؤولية. فقد كان يؤمن أن الحقوق ليست هبة تُوهب، بل غاية تُنتزع، وأن الإرادة الصادقة وقوة العزم هما السلاحان الوحيدان أمام جبروت الطغيان.
لكن الموت، ذاك الزائر الحتمي الذي لا يستأذن أحداً، اختار أن يحمل روحه إلى موكب الخالدين، إلى صفوف الشهداء الذين صنعوا من دمائهم مداداً يكتبون به أنشودة الكرامة والحرية. لم يكن رحيله مجرد غياب، بل كان بداية فصل جديد من الحكاية، حكاية أولئك الذين اختاروا أن تكون حياتهم رسالة، ورسالتهم أبدية لا تنقطع مع انطفاء الجسد. لقد علمنا هذا الرحيل أن الموت، وإن بدا للعين انتهاء، يحمل في طياته ولادة جديدة. فالصمود الذي أورثنا إياه سيظل شعلة لا تخبو، والإرادة التي جسدها ستبقى درساً عابراً للأجيال، يذكرنا بأن الكرامة ثمنها غالٍ، لكن التضحية في سبيلها حياة لا يعرف الموت سبيلاً إليها. إن ذكراه اليوم تسكن أرواحنا كمنارة تُنير لنا الطريق، تهمس لنا بأن من يواجه الظلم بشجاعة وصدق لا يموت أبداً، بل يحيا في قلوب الأحرار، شاهداً على أن العدل هو أسمى الغايات، وأن الطريق إليه، مهما طال، يستحق كل قطرة عرق وكل قطرة دم تُبذل في سبيله.
نسأل الله العظيم أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء. لقد غاب عنا جسداً، لكنه باقٍ في ذاكرتنا نبراساً يُنير لنا طريق النضال حتى تكتمل الرسالة، ويُرفع الظلم عن كل مظلوم. تعازينا الصادقة لكل الرفاق في ميادين النضال، ولكل المجاهدين الذين وقفوا بثبات في وجه الظلم، والمرابطين الذين حملوا رايات الحق بإيمان لا يتزعزع. نعزي أبناء وبنات الكيان الذين كانوا جزءاً من هذه المسيرة العظيمة، ونعزي أهل السودان كافة، في فقد رجلٍ نذر حياته لقضية وطنه وأمته.إن الفقد جلل، لكن عزاءنا أن الروح التي مضت قد تركت إرثاً من النضال والصمود، إرثاً يُلهمنا جميعاً لمواصلة الطريق، ويمدنا بالقوة لنكمل المسيرة نحو العدالة والحرية التي نطمح لها جميعاً.
abudafair@hotmail.com