الكاتب الصحفى حمدى رزق يكتب: ما تيسّر من سيرة روحية بنت داعوش

العالم الآنالعالم الآن 11, مارس 2024 10:03:12

 

«يوم عاد الشهيد شايل نصره..»

 

وكنت أناديها بـ«ستى روحية»، وستى وتاج راسى، وكنت أحبها حبًا جمًا، وتحبنى حبًا فريدًا، كانت زكية من الزكاوة، ورائحتها زكية وكأنها تستحم بماء الورد، بيضاء تسر الناظرين، شعرها الأسود تظلله شعيرات فضية تضفى عليها مهابة، كانت مهيبة الطلعة، خفيفة الروح، إذا ضحكت أشرقت شمسها، وإذا اغتمت أظلمت الدنيا فى وجهى.

 

يومًا وجدتها تبكى بكاءً حارًا، اقتربت ودنوت وربتّ على ظهرها برفق، فتنبهت إلى حضورى الطاغى فى حياتها، وكأنها تشكو حالها لحالها، خالك «أبوالحديد»، راح الجبهة، وما عاد، لا حس ولا خبر، الحرب خلصت، وعبروا وعدوا القنال، ولا جواب ولا تلغراف، خايفة يكون استشهد أو خطفه الإسرائيلية، أصل دول ديابة، خطفوا «حسن» ابن العمدة فى النكسة الله لا يعيدها، وأمه ماتت محسورة عليه، وأبوه ذاهل من يومها، خايفة قوى على خالك، أصله غلبان، ست سنين فى الجبهة، ماشفتوش غير أيام معدودة، قلبى واكلنى عليه يا ضنايا.

 

بكيت بجوارها، فمسحت دموعى بكُمّها.. متخافش ربك موجود يرده سالما غانما.. خالك بخير، أنا حلمت به امبارح، كان فرحان وبيهتف الله أكبر، لما تكبر لازم تروح الجيش.. وتكون بطل زى خالك..

 

وكأنها كانت تسمع للشيخ إمام عيسى، مقطعه الحزين من أغنية أحمد فؤاد نجم الشهيرة، «آه ياعبد الودود».

 

‏‎أمك عتدعى ليك..

 

‏‎وعتسلم عليك..

 

‏‎وتقول بعد السلام:

 

‏‎خليك ددع لابوك (جدع)

 

‏‎ لا يقولوا منين دابوك (جابوك)

 

‏‎ويمصّخوا الكلام!.

 

وإذ فجأة يقتحمنا فى خلوتنا صوت «شريفة فاضل» من راديو عابر بأغنيتها الذائعة «أنا أم البطل»، تقلّب المواجع، عادت ستى للبكاء، وبكيت فى حضنها، وصرنا نبكى بكاءً مُرًا، لدرجة النهنهة، وتعالى صوتها بصويت أفزع الطيور من أعشاشها، وفقدت رباطة جأشها، وعلى صرخة واحدة.. «فين خالك يا ولدى»، وأنا فى حالة بكاء، اتفحمت من البكاء، فينك يا حبيب أمك، فين أراضيك، يا ترى عايش ولا ميت، وتخبّط على صدرها، وحاولت تشق طوق جلبابها، وأنا على صرخة واحدة «بلاش يا ستى بلاش يا ستي»، حتى هرولت أمى صاخبة، مالك يا ولية، عاملة فى نفسك كده ليه، ترد مفحومة من العياط، أخوكى واحشني، هاتوا لى «أبو الحديد»،

 

وفى يوم رمضانى رائع قفز أخى «مجدي» فجأة وكأن عقربة لدغته، وأخذ يعدو سريعًا كظبى يهرب من الصياد، وقطع المائة متر عدوًا فى ثوانٍ ولا كارل لويس (كان بطلًا للعالم فى العدْو) واحتضن جنديًا جاء من أقصى المدينة يسعى، ومن اندفاعه سقط الاثنان يحتضنان بعضهما فى طين الحارة، وكان مشهدًا فريدًا وعجيبًا، والزغاريد تعلو فى الحارة، وتهليل وتكبير، وكل الجيران خرجوا يستطلعون، وكل من خرجت من بيتها وضعت يدها على فمها وتزغرد، فأزاحت جدتى ستار الحزن من على عينيها، وكأنها ترى من جديد نورا إذ يفج من ظلام الحارة، وصرخت من قعر بيتها: فيه إيه يا ولاد؟..

 

جميعًا فى نفس واحد «أبو الحديد رجع يا أم صلاح»، بدهشة لم أرها على وجه مخلوق.. رجع، يا حلاوة يا ولاد، رجع بصدق، كانت تنطقها بالسين فتخرج من فمها زى العسل، ولكنها لم تقتنع إلا إذا سألت فين حمدى، أنا هنا يا ستى، صحيح خالك رجع، آه يا ستى على راس الشارع، تسأل فى خشية: وهوه كويس؟. جاى على رجله؟.. آه يا ستى..

 

وإذ فجأة ترقع زغرودة لا تزال ترن فى أذنى، زغرودة لو وصفتها ما كفتها لغة وصفًا، ولو لم أسمعها منها ما عرفت معنى زغرودة أم الشهيد يوم خَرْجِته عريسًا صاعدًا إلى السماء، فى ديارنا أم الشهيد هى أم البطل، ترتدى الأبيض وتمشى كالعروس وراء الجثمان المسجى بدمه، تفج منه رائحة المسك، ويزغردن من حول النعش، ويشيعونه مع السلامة والقلب داعيلك، هل أهّلت ستى نفسها للقب أم الشهيد؟.. أعتقد ذلك، ولكن شهيدها حي.. والله حي.. وإن كان فى أرضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولد، ومدد مدد ماااااددددد شدى حيلك يا بلد، تحس أن طيب الذكر «محمد نوح» يرحمه الله ما وفق فى مشواره إلا فى هذه الأنشودة التى صارت أيقونة حارتنا وكل الحارات المصرية.

 

كل الحارات لها شهيد فى حرب، كل الأمهات يلدن شهداء إذا حمّ القدر، كل الجدات مثل جدتى عشن أيام الحرب فى كبد، وأولادهن على الجبهة لا يعرفون لهم مستقرا، ما بين النكسة والعبور، بين التاريخين لم يكتبه أحد، وإذا كان قُدر لجدتى موهبة الكتابة لسجلته فى دفاتر الزمن.

 

أيام طويلة وليالٍ سوداء، سهرت تقص على مسامعى قصة العدو الجبان الذى يقتل فينا أعز ما فينا، وتحكى أياما عاشتها فى أحزان النكسة الله لا يرجعها، وطلاء الشبابيك بالأزرق، وطفى النور يا بهية، ولا تلتقطوا أشياء من الأرض، وحكايات طائرات العدو الخبيثة التى تلقى بأقلام ولعب يلتقطها الصبيان فتنفجر فيهم، كانت تحذرنى بشدة، وتقرط عليَّ: اوعى تاخد حاجة من الشارع لتنفجر فيك.

 

كنا صغارا نتواصى بوصية جدتي، وكنا نعيش أياما حزينة ونحن لا نقرب الشارع ليلا، فإذا ما عاد الرجال من صلاة العشاء كنا نَكِنَّ فى قعور البيوت المظلمة إلا من لمبة صفيح بشريط يبخ سناجا يسود الوجوه، وعانيت ألما رهيبا وأنا أذاكر دروسى فى ضوء اللمبة الصفيح، ويوم جلب لنا جدى لمبة كبيرة بزجاجة علوية تمنع الهباب وتشع ضوءًا أبيض ساطعا كانت نعمة كبيرة، وكم من نعم عشتها وكنت راضيا مرضيا، غرست جدتى فى نفسى القناعة حتى أكل الطبيخ البايت، نعمة وربنا يديمها ويحفظها من الزوال، حتى لقيمات العيش القديم ما كانت تهدرها، تطهو منها «تسقية» كالثريد يوم «الظفر» يوم سعيد أن يُطبخ ظفر، والظفر فرخة أو كيلو لحم جملي، المهم المرق ليكتمل للوجبة تميزها، وتصنع منه ثريدا بتخديعة حمراء بالثوم والبهار، تزين به وجه الصينية الممتلئة عيش وأرز مسقى بالمرق، لا يفارق عقلى لذتها، لذة للآكلين، وما عثرت فى رحلاتى الخليجية أو المغاربية على ثريد بمذاق ثريد جدتى، تضحك ملء شدقيها، الطبيخ نفَس، ونفَس جدتى ألذ طبعا.

 

كان خالى مشروع شهيد، ولكنه عاد حيا من حرب 73، عاد حيا بعد أن فقدت ستى روحية الأمل فى عودته، كانت تنوح عليه، فوهبه الله حياة لكى لا يكسر قلبها، ولا تسأل عن فرحة روحية عند عودة ابنها سالما غانما، رجع على رجليه يا ولاد، وكانت هذه أول مرة فى حياتى أسمع ستى روحية وهى تزغرد، ثم اختنقت الزغرودة فى حلقها من البكاء الذى هجم عليها، والبكاء كما هو إعلان رسمى بحالة الحزن التى تصيب الواحد منا، إلا أنه أيضا إعلان رسمى بحالة الفرحة الشديدة التى تغزو مشاعرنا، وهذه هى غزوة الفرح، تنهمر دموعنا حزنا، وتنهمر فرحا.

 

جلس خالى فى حمى أمه روحية، أعدت له من الطعام الأطايب التى لا نراها إلا فى النادر، ولكنها أشرفت بنفسها على الطبيخ كأحسن شيف فى أكبر مطعم فى نيويورك، أو أكبر فندق فى باريس، وعلى الطبلية تم وضع البط والحمام والفطير والملوخية، وأكل كل الحبايب معنا، الأقارب والحبايب وما تيسر من الجيران.

 

وظل خالى أبو الحديد فى حياتى يمثل قيمة كبيرة، رغم أنه لم يمت شهيدا، مات على فراشه، إلا أن أيامه كانت مليئة بالحركة والحياة، ولحياته قصص يجب أن تُروى، ولكن يكفى أنه كان ابن ستى روحية داعوش التى لم تعرفوها بعد.

 

نقلا عن مجلة المصور


#السيرة الهلالية #العالم الآن #الكاتب الصحفى حمد رزق #جمهورية مصر العربية #ما تيسّر من سيرة روحية بنت داعوش #يوم عاد الشهيد شايل نصره

اخبار مرتبطة